ثم ذكر الإمام
ابن عبد البر خلاف
أبي حنيفة وأهل الرأي في هذا، ثم قال: (وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار)؛ لأن بعض الفقهاء من أهل الرأي في الفقه ليسوا موافقين لكلام
أبي حنيفة في الإيمان، ومنهم
ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، ذكر ذلك الإمام
أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، وهو شيخ أهل الرأي الأول. يقول: (وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بـ
الحجاز و
العراق و
الشام و
مصر منهم
مالك بن أنس و
الليث بن سعد و
سفيان الثوري و
الأوزاعي و
الشافعي و
أحمد بن حنبل و
إسحاق بن راهويه و
أبو عبيد القاسم بن سلام و
داود بن علي) يعني
الظاهري (و
أبو جعفر الطبري) يريد أن يأتي بالأئمة من أصحاب المذاهب المتبوعة، فـ
مالك معروف، و
الليث كان مذهبه منتشراً في
مصر ، ثم اندثر مذهبه، كما قال
الشافعي : (
الليث ضيعه تلاميذه)، و
سفيان الثوري كان إمام الناس في زمانه في
الكوفة ، وهو من الأئمة المتبوعين المعتد برأيهم، و
الأوزاعي كان إمام أهل
الشام ، و
الشافعي معروفة مكانته، وكذلك الإمام
أحمد و
إسحاق بن راهويه من أئمة أهل الحديث، و
أبو عبيد إمام متبوع في اللغة والفقه، و
داود بن علي إمام أهل الظاهر المؤسس للمذهب، و
أبو جعفر الطبري أيضاً كان إماماً متبوعاً له مذهب وأتباع. قال رحمه الله تعالى: (ومن سلك سبيلهم، فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة). وهذا بيان لما سبق ذكره من أنهم يقصدون بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح. قال: (وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان)، فالشعبة الواحدة من شعب الإيمان تسمى إيماناً. قال: (والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم) فهم يثبتون لهم إيماناً مقيداً، ولا يثبتون لهم الإيمان المطلق كما تقول
المرجئة ، فالإيمان المطلق يمدح به من أتى بالواجبات وترك المحرمات ولم يأت بما يخل بالإيمان، فيطلق له الإيمان فيقال: هو مؤمن، كما قال تعالى: ((
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ))[الأنفال:2]، وهذا الإيمان مثل إيمان الصحابة والسلف الأول، يثبت لهم الإيمان المطلق، فهم المؤمنون حقاً من هذه الأمة، لكن فساق أهل القبلة وعصاتهم نثبت لهم مطلق الإيمان، فلا نخرجهم من الإيمان إلى الكفر كما فعلت
الخوارج ، ولا نقول: هم في منزلة بين المنزلتين -أي: بين الإيمان والكفر- كما قالت
المعتزلة ، ولكن نثبت لهم إيماناً مقيداً، فنقول عمن كان كذلك: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ونقول: هو مؤمن لكنه يشرب الخمر، فيفهم من ذلك أنه مسلم، وليست كلمة (مؤمن) بمعنى المؤمن الذي أثنى الله عليه ومدحه، وهذا كله سيتضح في مباحث مفصلة فيما بعد، ولكن المقصود من قول الإمام
ابن عبد البر أنهم يعتقدون أن أصحاب الذنوب مؤمنون غير مستكملي الإيمان، فيثبت لهم إيمان مقيد.